رياح التغيير تعصف بالشّرق الأوسط من جديد .


هذا المقال منقول عن المؤسسة العربية و الإفريقية للدراسات -ابن رشد A.F.R.A.S
ترافقت جهود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الهادفة لتشكيل “حلف ناتو عربي” مع تفجير مفاجأة سياسية من العيار الثقيل. فلم تكن قطر التي شاركت في مؤتمر ترامب لمكافحة الإرهاب لتضع في حسبانها أن تكون هي الضحيّة الأولى لهذا المؤتمر.
بدايةً، لا يمكن تحليل الأزمة بمنئى عن فهم الموقف الأمريكي الذي حمل الكثير من عدم الوضوح بسبب التناقض بين تغريدات الرئيس دونالد ترامب على تويتر و التي أيّدت خطوة المقاطعة بشكل معاكس للتصريحات الرسمية و الخطوات المتّخذة من قبل كلٍّ من وزارتي الخارجية و الدفاع الأميركيتين اللتان أصرّتا على اعتبار قطر حليفاً استراتيجيّاً، وهو الأمر الذي جعل فضاء التحليلات السياسية مفتوحاً أمام المحلّلين لافتراض نظريّات متعددة حول موقع الولايات المتحدة من الأزمة.
ففي حين يرى فريق من المحللين أن هذه المقاطعة قد جاءت بمباركة و ربما توصية ترامب، يروج الفريق الآخر سيناريو مناقض يرون بموجبه أن المقاطعة قد جاءت نتيجة استغلال كلٍّ من المملكة العربية السعودية و الإمارات العربية المتحدة لحالة التخبّط و قلّة الحيلة التي تعاني منهما الإدارة الأمريكية مما سهّل عليهما اتّخاذ نتائج المؤتمر الأخير كذريعة لمقاطعة قطر إستكمالاً لسلسلة الخلاف الايديولوجي و السياسي القديم و الذي كانت مقاطعة قطر قبل ثلاث سنوات في ٢٠١٤ واحدة من حلقاته.
يبدو التحليل الأخير هو الأكثر إقناعاً بالنظر إلى الخلافات السياسية العميقة حول العديد من الملفات الاستراتيجية بين قطر و جيرانها، حيث يبدو تفرّد قطر بالقرارات بعيداً عن الفضاء المشترك للمملكة و الإمارات كسبب رئيسي للمقاطعة. و بغض النظر أي التحليلات هي الأكثر صواباً، فإن شكل الاصطفافات الإقليمية قد أصبح أقلّ ضبابية بالفعل، كما بدى الإنقسام بين دول منظمة مجلس التعاون الخليجي أكثر وضوحاً من ذي قبل. حيث ظهر في خضام الأزمة مجموعة ثالثة اتخذت فيها كلٌّ من الكويت و سلطنة عمان موقف الحياد الإيجابي من خلال محاولتهما لأيجاد وساطة دون الانحياز لطرف دون الآخر. أمّا الدور التركي فكان أكثر أهميّةً ، حيث أبدت تركيا رغبتها بالوساطة و لكن مع إظهارها الانحياز لطرف قطر بشكل حذر، و هو الأمر الذي قد خلق قلقاً بين صفوف الدول المقاطعة و التي باتت تدرك أن خسارة قطر قد تؤدي أيضاً إلى خسارة تركيا.
إن قراءة هذه المعطيات تطرح العديد من التساؤلات المهمة حول أهداف إنشاء “الناتو العربي” المزعوم و مدى قدرة الدول الأعضاء على تحقيق تلك الأهداف، ففي الوقت الذي كان من المتوقع أن تكون إيران هي اولى جبهات هذا الحلف، جاء التركيز على إضعاف الموقف السياسي لقطر، بمثابة مفاجأة للكثيرين. حيث لم يكن من المتوقع أن يكون عمق الخلاف الإيديولوجي و شدة المنافسة الإقليمية بين قطر و المملكة العربية السعودية يستحقان فعلاً أن تراهن المملكة على خسارة كلٍّ من قطر و تركيا أو أحدهما لصالح خصمها الأول إيران.
فإذا ما سلمنا جدلاً أن قطر لن تكون مستعدة للتخلي عن دعمها لحركة حماس تحت أي ظرف من الظروف، و أن تركيا لن تقبل بالاصطفاف جنباً إلى جنب مع كلٍّ من مصر و الإمارات العربية المتحدة، فيمكننا عندئذٍ افتراض وجود مجموعة من الخيارات الإستراتيجية التي توجّب على المملكة أن تفاضل بينها مثل (إسرائيل/قطر ، تركيا/مصر).
يمكن أن يُبَرّر اختيار المملكة لإسرائيل مقابل التخلي عن قطر بشيء من المنطق و الواقعية السياسية لسببين رئيسيين ، أولهما التفوّق الإسرائيلي في شتى المجالات، و ثانيهما التخلص من المنافسة الخليجية المتمثلة بتباين المواقف السياسية، حيث يمكن لهذين العاملين أن يفضيا إلى حلف أكثر إستدامة (من وجهة نظر واقعية).
أما اختيار مصر بديلاً عن تركيا فهو بلا شك يضفي طابعاً أكثر عربيةً على التحالف مع المحافظة على المملكة العربية السعودية في موقع ”القائد إسلامياً“ نظراً لإمتلاكها نفوذاً و قدرةً على التأثير ضمن الدوائر الضيّقة لصنع القرار في مصر و هو الأمر الذي لن تتمكن من تحقيقه في حال وجود تركيا ضمن هذا التحالف، لإنّ نفوذ المملكة في تركيا (اقتصادي بغالبه) ضعيف نسبياً عند مقارنته مع نفوذها في مصر. و لقد تجلّى هذا النفوذ مؤخراً من خلال إتمام “صفقة” جزيرتي تيران و صنافير على الرغم من تعارض الصفقة مع حكم المحكمة الدستورية العليا، إضافةً لمعارضة العديد من الأصوات البرلمانية و الإعلامية المصرية لها. مما أضرّ بالاستقرار الداخلي للبلاد، لكن و بعيداً عن المشهد المصري، فمن المهم فهم الأهميّة الإستراتيجية التي تنطوي عليها هذه الصفقة، كونها تشكل عاملاً يساعد على ترسيخ و تثبيت التحالف الإقليمي الجديد من خلال ثلاثة نقاط رئيسية: أولها أهميّة الجزيرتين في رفع قدرة المملكة على التصدي لنفوذ إيران البحري المتزايد في محاذاة اليمن . ثانيها إعادة رسم الحدود لتصبح المملكة جارةً لإسرائيل، و آخرها تمكّين إسرائيل من الحصول على منفذ بحري جديد و هو الأمر الذي قد يعدّ نقطة إضافية لتعزيز الحلف الجديد.
إذاً و على الرغم من أنّ الخيارات الاستراتيجية التي يطرحها هذا المقال هي مجرد فرضيّات لا تتعدى التحليل النظري، تبقى صِحّة المفاضلة بينها موضعاً للشك و التساؤل، خاصّةً بعد تسبب الأزمة الخليجية في تعميق الإنقسامات بين صفوف حلفاء الخليج من المتمرّدين في سوريا تزامناً مع تقدم القوات الحكومية السورية المدعومة إيرانياً باتجاه الحدود السورية العراقية، و هو الأمر الذي يعد تطوراً استراتيجياً لصالح إيران في سوريا بدليل ظهور قاسم سليماني القيادي الرفيع المستوى في الحرس الثوري الإيراني على جبهة القتال.
إنّ هذا التقدم الإيراني المبكّر على الجبهة السورية يعيد التأكيد، على الأهمية الاستراتيجية للتقارب التركي-القطري، كما أنه قد يفرض واقعاً جديداً أمام ”الناتو العربي“ و يجعل المملكة تعيد الحسابات المتعلقة بخياراتها الإستراتيجية في المستقبل، لأنّ خسارة المحور التركي القطري لصالح إيران، لن تخلط الأوراق في المنطقة و حسب ، إنما قد تقلب الطاولة رأساً على عقب. كما أن المراهنة على ترامب الذي يواجه معارضةً من قبل أهم هيئات اتخاذ القرار في الولايات المتحدة قد يكون بمثابة اللعب بالنار.
طارق البيطار- كاتب و باحث في العلاقات الدولية 

تعليقات